ألكساندر زينوفييف … لقراء العربية
ألكساندر ألكساندروفيتش زينوفييف علم من أعلام الفكر الروسي المعاصر، حازت أعماله شهرة واسعة في الاتحاد السوفيتي وخارجه منذ سبعينات القرن الماضي.آنذاك أبدت الأوساط العلمية والسياسية الغربية اهتماما كبيرا بنتاجاته ، مع العلم بأن كل ما أبدعه كان يدل بوضوح تام على استقلالية ونزاهة باحث رصين لا تنال منه الأهواء من اية جهة هبت، شرقية كانت أم غربية. ولم يتراجع عن ذلك قيد أنملة حتى آخر لحظة في حياته. أثارت مؤلفاته ضجة كبرى في بلاده، وترجمت إلى العديد من اللغات الأوروبية. ولو تعلق الأمر بالقارئ الروسي أو حتى الأوروبي ، لقلنا بكل ثقة إن زينوفييف غني عن التعريف. أما وأننا بصدد الحديث عنه وتقديم واحد من كتبه للقارئ العربي، فلا نرى بدا من التوقف قليلا للإضاءة على سيرة هذا المفكر الروسي الكبير وبعض إبداعاته، وعلى وجه الخصوص كتابه “الغرب” الذي من المنتظر صدوره قريبا عن إحدى مؤسسات النشر العربية.
ولد ألكساندر زينوفييف عام 1922 ، وتوفي عام 2006 بعد رحلة شاقة طويلة، مليئة بالأحداث، غنية بالأفكار والرؤى والمشاريع. في عنفوان شبابه راودته فكرة خطيرة إذ اعتقد أن اغتيال ستالين قد يضع الأمور في نصابها. وفي سبعينات القرن الماضي تبلور موقفه الانتقادي الصارم إزاء العديد من الظواهر السلبية في المجتمع السوفيتي، الأمر الذي لم يرق سدنة العلم والمعرفة الرسميين، فجردوه من مناصبه العلمية والأكاديمية، ومن أوسمته العسكرية كمقاتل في الحرب الوطنية العظمى ضد جحافل النازية. أُبعد عن بلده ، فاستقر في المانيا، ووُصف بالمنشق. ورغم صحة هذه الواقعة من كافة الجوانب، لم يكن زينوفييف منشقا بالمعنى المتداول للكلمة آنذاك. وكما يقول عنه رئيس معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الروسية الدكتورعبد السلام حسينوف “لم يكن زينوفييف في يوم من الأيام معاديا لا للشيوعية ولا للنظام السوفيتي، وفي الوقت نفسه لم يكن منافحا عنهما، بل كان منافحا عن الحقيقة بخصوص الشيوعية. وكان أول من أنشأ مفهوما علميا عن الشيوعية الواقعية” ، أي كما هي في الواقع لا في المشاريع الطوباوبة. كان وطنيا غيورا يعتصر قلبه الألم على مصير وطنه وشعبه، ويتطلع بعقله وضميره وكل نشاطاته إلى رفعة بلاده وعزة قومه. وما أن تبدلت الأحوال السياسية في بلاده وبات بمقدوره تنسم هواء الحرية فيها، حتى حسم أمره وعاد إلى ربوعها ومؤسساتها العلمية معززا مكرما، ليتابع بكل همة ونشاط العمل على تحقيق ما وضعه نصب عينيه منذ بدايات نشاطه العلمي في الوطن، وإبان اقامته القسرية المديدة في المهجر.
ولأنه مفكر موسوعي متعدد المواهب والاهتمامات تناول زينوفييف العديد من قضايا العصر عبر مختلف اجناس التعبير، من الرواية وحتى الغوص في أعقد مسائل الفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع، ناهيك عن أنه فنان تشكيلي ابدع ما لايحصى من اللوحات والرسوم التي نستشف من خلالها عالما داخليا ثريا.
عاش زينوفييف في أحضان الغرب قرابة عشرين عاما كما أسلفنا. وكانت هذه الفترة كافية جدا لصاحب فكر ثاقب ورصيد ثقافي علمي هائل، لكي يلاحظ كثيرا مما لم يلاحظه غيره، ولينجح في تبديد أوهام الكثيرين ممن اعتبروا اللحاق بالغرب والسير على خطاه باب الخلاص من “موبقات” الإشتراكية السوفيتية والمشاكل المعقدة التي عانت منها روسيا في مختلف مراحل تطورها الاجتماعي والاقتصادي. لقد تمكن زينوفييف من النفاذ إلى أعماق المجتمع الغربي وتعرية أدق تفاصيله وجزئياته بعيدا عن ما يطبع الصغار من رياء ومداهنة لولي نعمتهم – إذا جاز لنا التعبير- أو لمن يعيشون في كنفه ويلقون منه العون لتجاوز ما قد يعتبره البعض محنة شخصية، أو ضربة غادرة من كف القدر.
إن كتابه “الغرب”، الذي يعد خلاصة ملاحظات دقيقة ومعايشة يومية على مدى سنوات طويلة، يؤسس لنظرة أصيلة للمجتمعات الغربية ولموقف تحليلي معمق للمسار التاريخي الذي قطعته هذه المجتمعات على طريق تطورها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ومما لاشك فيه أن من حق القارئ أن ندعه وشأنه مع هذا الكتاب وصولا إلى استنتاجاته الخاصة، ومع ذلك لا نرى مندوحة من الإشارة إلى طريقة المؤلف في عرض افكاره. إن هذه الطريقة تقوم على تشريح خلايا المجتمع الغربي والاستفاضة في عرض خصوصياتها ووظائفها الاجتماعية والاقتصادية، ليصل إلى وصف هذا المجتمع بمصطلح “الغربوية”، مبينا أن ظاهرة الغربوية نتاجُ سياق تاريخي بعينه، من السخف محاولة استنساخه، أو اسقاطه على مجتمعات أخرى. ولكن الرؤية النقدية الصارمة لا تمنع المؤلف من إبراز القيم السامية والمنجزات الحضارية التي تبلورت في الغرب، والتنويه بأهميتها الكونية إذ باتت إرثا للبشرية جمعاء.
إن أهمية نشر هذا الكتاب باللغة العربية تنبع ، باعتقادنا ، من ظروف المرحلة التي تمر بها علاقات عالمنا المعاصر الذي تكاد تتحكم به أحادية قطبية هي في الجوهر والمضمون أحادية بحت غربية. إن الطموح المشروع لكسر حلقات هذه الأحادية والخروج من هيمنة نمطيةٍ ظالمةٍ متجبرةٍ سيجد له سندا نظريا هاما في كتاب زينوفييف “الغرب”. وبين دفتي هذا الكتاب سيطلع القارئ العربي على وصف تحليلي، دقيقٍ وتفصيلي، لمختلف مناحي الحياة في المجتمع الغربي ومرتكزاته الاقتصادية – الاجتماعية… وصفٍ يُعينه على فهم سيروة مجتمعات الغرب، ويساعده في تفكيك آليات السلطة داخل هذه المجتمعات وامتداداتها الهيمينة في شتى اتجاهات كرتنا الأرضية. وانطلاقا من تقديرنا لفائدة الإطلاع على هذا العمل أقدمنا، بالاشتراك مع الدكتور نوفل نيوف، على ترجمته آملين أن يصدر قريبا. كما أننا نتطلع إلى ترجمة المزيد من أعمال زينوفييف لثقتنا الراسخة بأنها ستشكل إغناء حقيقيا للمكتبة العربية.
د.عادل اسماعيل – موسكو